في قرية هادئة، حيث تغني العصافير على الأغصان وتراقب النجوم سماءً صافية، عاش فتى يُدعى “فيلو” وفتاة تُدعى “سلام”. نشأ فيلو وسلام كزهرتين متجاورتين في حديقة واحدة، يرتشفان من نفس قطرات الندى ويتشاركان دفء الشمس. كان فيلو يكبر سلام بسنتين، وقد أُعجب بها منذ اللحظة الأولى التي لاحت فيها عيناه بجمالها. كانت سلام بالنسبة له كلوحة فنية نادرة، لوحة تُجسّد كل معاني البراءة والرقة والجمال.

كان فيلو يحمل في قلبه مشاعر غامضة تجاه سلام، مشاعر لم يفهمها بعد. كان يُراقبها خلسةً، كشمس تراقب القمر من بعيد، كأم تراقب أطفالها، كان يحوم حولها كطائرة الدرون، كان يُحلّل كل حركاتها ويُفكّر في كل كلمة تنطق بها. كان يُريد أن يكون حاضرًا في كل لحظة من حياتها، كظل لا يُفارقها. فكلما احتاجت إلى مساعدة، كان فيلو حاضرًا كعفريت مصباح علاء الدين، كبطل خارق ينقذها من أي موقف صعب. كان يحمل لها حقيبة المدرسة، يُنظّف الشارع أمام بيتها، يشتري لها حاجياتها من الدكان، بل كان يُساعد والدها في المنزل وخارجه. حتى أنه كان يُساعد والدتها في تنظيف البيت ونشر الغسيل على سطح المنزل.

“وفي رواية صحيحة السند: حدثنا يازو عن مازو إبن حسنة بياعة الفجل، عن  كيمو إبن المسحراتي عن نيمو ابن العرص قال ” رأيت فيلو في أحد المرات وهو على سطح منزل سلام وكان يحمل سلة الغسيل لأم سلام، فغافلها وقام بسرقة أحد كلاسين سلام وخبأه في جيبه. وفي رواية أخرى خبأه داخل بنطاله.”

المراهقة الآولى.

في ربيع عمره، حيثُ نبتت زهور رجولته الأولى، ازداد شغف فيلو بسلام. تحوّل حبه الطفولي البريء إلى شعلةٍ متأججة، يملأها الغيرة وهواجس الفقد، كان فيلو سريع الغضب دائم التوتر، يستفز من اتفه الأشياء، لذلك فقد دخل في معارك وخناقات شرسة مع معظم صبيان الحي من أجلها.

من جانبها، كانت سلام تُبادله نفس المشاعر. لم يكن فيلو بالنسبة لها كباقي صبية الحي، بل كان مُميّزًا، يُحاط باهتمامها وابتساماتها. لكنّها، من عائلة محافظة، تُقدّس التقاليد والعادات، حيثُ يُعتبر الحب جريمةً لا تُغتفر. لذلك، كانت حريصة وحذرة في تعاملها معه، تُخفي مشاعرها خلف حجاب من الخوف والتحفظ.

القفص الذهبي

مع مرور الأيام، ازدهرت سلام، واكتملت أنوثتها، فأصبحت كزهرة نضِجت أوراقها، وعبقها فاق كلّ التوقعات. لكنّ أهلها، خشيةً عليها من عيون العالم، منعوها من الخروج واللعب مع أطفال الحي، ومنعوها من التحدث مع أيّ رجلٍ على وجه الأرض. حُبست سلام وحيدة أهلها في قفصٍ من ذهب، قفصٍ يُسمى “البيت”.

كان هذا القرار بمثابة صاعقةٍ هزّت فيلو، فهو اعتاد على رؤيتها، والحديث معها، ومشاركة كلّ لحظات حياته معها. أصبح الآن وحيدًا، يُعاني من الاشتياق والحنين، ويكاد يجنّ من شدّة الألم.

حاول فيلو بكلّ الطرق الوصول إلى سلام. تسلق الجدران، وتسلّل في منتصف الليل إلى بيتها، وتنكّر في زيّ نساءٍ، لكنّ كلّ محاولاته باءت بالفشل. بل منعوه حتى من الدخول أو الاقتراب من بيتها.

شعر فيلو بالعجز التام، وسيطر عليه شعورٌ بالغضب ورغبةٌ عارمةٌ في الانتقام من عائلتها. فبعد أن كان يعتبرهم كعائلته الثانية، أصبح يعاملهم كأعداءٍ، وقرّر أن يفعل كلّ ما في وسعه لمساعدة سلام على التحرّر من سلطة أهلها.

في المقابل، لم تنجُ سلام من ويلات “السجن المنزلي”. فقد أصابها الإحباط والاكتئاب، وباتت حبيسة غرفتها، مُحاطةً بأشباح الوحدة والملل. وسرعان ما انعكس ذلك على جسدها، فزاد وزنها، وتدورت، وتكورت، وتكعبلت، وأصبحت بحجم أمها، بل تفوّقت عليها!

وظهرت البثور في وجهها، روؤس سواداء وبيضاء من كل الاحجام والاصناف، وتبرقع وجهها وتلون بكل الألوان.

لم تُؤثّر هذه التغييرات على فيلو في البداية، فقد كان مُتعلّقًا بسلام، لا يرى عيوبها، بل يرى جمالها الداخلي. لكن مع مرور الوقت، بدأت مشاعره تتغير، وازدادت شكوكه، وبدأ يتساءل: “هل هذه هي نفس سلام التي أحببتها؟”

الهروب الكبير

ازدادت مشاعر القرف والاشمئزاز في داخله، وبدأ يشعر بالندم على كلّ ما بذله من أجلها. شعر أنه كان مخدوعًا، وأنه اختار الفتاة الخاطئة، وبرّر ذلك بقوله: “كنت صغيرًا، ولم أكن أملك القدرة على الحكم الصحيح”.

دخل فيلو في صراعٍ داخلي، يُحاول إقناع نفسه بأنّ سلام لم تكن مناسبة له من الأساس.

لم تستمر هذه المعركة الوجدانية طويلاً ، بالنهاية قرر تركها وحيدة وهرب كالجبناء.

قرّر فيلو طيّ صفحة سلام نهائيًا، بل تجاوز ذلك إلى شتمها والسخرية من مظهرها الجديد. ولم يكتفِ بذلك، بل سعى إلى الانتقام منها ومن عائلتها بأبشع الطرق.

بدأ فيلو بنشر الإشاعات الكاذبة عن سلام، ونقل أحاديثه الخاصة معها للجميع دون خجل. وسرب بياناتها، وادعى كذبًا أنّ سلام أهدته أحد كلاسينها في عيد ميلاده، مُشكّكًا في صحة رواية سرقته له، مُستغلًّا تناقض الروايات.

فقد طعن فيلو في عدالة أحد الرواة، وهو نيمو ابن العرص، مُتهمًا إيّاه بالفسق لمجرد قضاءه بعض الوقت مع كيمو في عشة الفراخ على سطح منزله. مؤكدا لبعض الشائعات التي دارت حولهم بممارستهما للرذيلة.

كان فيلو يُدرك أنّ ما يفعله خاطئ، لكنّه كان مُسيطرًا عليه بمشاعر الغضب والانتقام. لم يكن يُفكّر إلا في إيذاء سلام وعائلتها، دون الالتفات إلى العواقب.

البحث عن الفتاة المثالية.

بدأت رحلة فيلو الشاقة، رحلة البحث عن فتاة أحلامه الجديدة.

فتاة أحلامه هذه، امرأة متحررة، حرة، قوية، لا تقبل الخضوع لسلطة أحد، حتى سلطة أهلها.

ولكن، يجب أن تكون خالية من العيوب، بشرتها صافية ناعمة كالرخام، وجسدها رشيق كجسد “كيم كارداشيان”.

باختصار، كان فيلو يبحث عن الفتاة المثالية، فتاة أحلامه التي لا تشوبها شائبة. ودون أن يدري، كان فيلو يبحث عن فتاة تُجسد كل ما عكسته حبيبته السابقة “سلام”. فسلام كانت فتاة تقليدية، قبيحة ومنتفخة، مرتبطة بعائلتها وبيئتها بشكل وثيق.

في رحلة بحثه هذه، لم يدخر فيلو جهدًا، فزار كل مكان تتواجد فيه النساء. وقف على أبواب مدارس البنات، تجول في مشاغل الخياطة ومحلات تصفيف الشعر، ركب المواصلات العامة.

لم يكتفِ فيلو بالعالم الواقعي، بل دخل عالم الإنترنت، والسوشيال ميديا، وشاهد الأفلام والمسلسلات والبرامج، القديمة والحديثة، بالأبيض والأسود والملونة، الوثائقية والمكسيكية والتركية، حتى الأفلام الإباحية.

الفلسفة، مأوى العجزة

عاش فيلو المرحلة الثانوية أسيرًا لرغبة ملحة في العثور على فتاة أحلامه، فتاة تُجسد الكمال بعينيه.

انشغل فيلو برحلة البحث عن فتاة أحلامه لدرجة أنه أهمل دراسته، مما أدى إلى حصوله على درجات متدنية في امتحان الثانوية، ليجد نفسه مُضطرًا للالتحاق بفرع الفلسفة.

المواجهة الكبرى

في أحد أيام الجامعة، بينما كان فيلو يتناول قهوته الصباحية في الكافتيريا، وقعت عيناه على فتاةٍ جميلةٍ تجلس على طاولةٍ بعيدة.

تأملها فيلو لدقائق، وشعر بشيءٍ غريبٍ يدور بداخله، شعورٌ ممزوجٌ بالدهشة والفضول والارتباك.

فجأةً، أدرك فيلو أن هذه الفتاة ليست سوى حبيبته السابقة، سلام.

لقد تغيرت سلام كثيرًا، فقد خسرت وزنها الزائد، وعاد وجهها نضِرًا وجميلًا كما كان عليه قبل سنوات.

تسارعت دقات قلب فيلو، وارتفعت نسبة الأدرنالين عنده لمستويات غير مسبوقة واحمرت أذناه لدرجة التوهج، وتدفق الدم في عروقه محملًا بكل أنواع الهرمونات الذكورية.

نهض فيلو من مكانه، واتجه نحو سلام بخطواتٍ مترددة، وفمه يلهث من شدة التوتر.

وقف أمامها مشدوهاً، محدقًا في عينيها، غير قادرٍ على النطق بكلمةٍ واحدة.

أخيرًا، تمكن من استجماع شجاعته، ودعاها لشرب فنجان قهوة.

قبلت سلام الدعوة، وجلسا معًا على نفس الطاولة، يتبادلان أطراف الحديث بعد فراقٍ طويل.

كان الفضول يقتل فيلو، وكان متوترًا للغاية، وعاجزًا عن تفسير ما يحدث.

بدأ فيلو بسيلٍ من الأسئلة، سأل سلام عن ماذا حدث لها، وكيف تغيرت بهذه الطريقة، وهل أجرت عمليات تجميل، وهل سافرت للعلاج خارج البلاد

“وتابع فيلو وقد ارتفع صوته وسَرُع إيقاعه، قائلا: كان يوجد ثلاث بثور على أنفك، وخمسة على خدك الأيسر، وثلاثة على خدك الأيمن، واحدة منهم كان لونها مائل للزرقة، وكان هناك سبعة رؤوس سوداء في وسط جبينك، كان يوجد بقعة حمراء يتوسطها أربع رؤوس بيضاء كبيرة فوق حاجبك الأيمن، وستة فوق حاجبك الأيسر،..و..و…و…

استرسل فيلو في وصف ما كانت عليه سلام، والغريب أنه كان يتذكر أدق التفاصيل وكأن صورتها محفورة بالألوان في ذاكرته.

استغربت سلام من دقة وصفه، فهي نفسها نسيت هذه التفاصيل.

هدأ فيلو قليلاً وتوقف عن طرح الأسئلة، وساد صمت ممزوج بشيء من الاحراج.

كسرت سلام هذا الصمت وبدأت بالكلام.

أخبرته أن والدها توفاه الله، وبعد وفاته تمكنت من التحرر من بعض القيود التي فُرضت عليها، وتمكن من اقناع والدتها بضرورة الدراسة والذهاب للجامعة، تفهمت أمها ذلك لأنها ابنتها الوحيدة. وتابعت سلام دراستها وبدأت بشق مستقبلها بثقة واتزان.

لم يكن فيلو يُصدق ما يسمع، سلام، تلك الفتاة المنتفخة الخجولة الضعيفة، تقف أمامه الآن بثقةٍ وقوةٍ واستقلالية.

انتاب فيلو شعورٌ بالندم الممزوج بالغضب، هل اتخذ القرار الخاطئ بالتخلي عنها؟

هل أجرم بحقها عندما سخر من مظهرها؟

شعر فيلو أنّه أمام مرآةٍ تُظهر له سوء أخلاقه، وأراد الخروج من هذا المأزق بأقل الخسائر.

فقرر استخدام الحيلة والمكر ليحفظ ماء وجه.

 طرح سؤالًا فلسفيًا عميقًا: “لو كان والدك على قيد الحياة، هل كان سيسمح لك بالخروج من المنزل والتصرف على هذا النحو؟”

أجابته سلام ضاحكةً: “بالتأكيد لم يكن ليسمح لي، وكان بالتأكيد سيقتلني”

فجأةً، انفجر فيلو غاضبًا، وصرخ فيها: “تخليت عن أصلك وخالفت رغبة والدك، لقد استغيلت طيبة أمك وحبها لك، ودُرت على حل شعرك”

غادر فيلو الكافيتريا غاضبًا، تاركًا سلام وحيدةً، وهو يصرخ ويزعق: “خائنة، بلا أصل، منافقة، كاذبة!”.

أكملت سلام قهوتها بسلام، راسمة على فمها ابتسامة المنتصر.

الخلاصة

فيلو، ذلك الأحمق الصغير والمُنافق الكبير.

فيلو، هذا الشاب الأحمق، تناقضٌ غريبٌ يسكنُهُ، فهو يرى سلام قبيحةً ومقززةً إن بقيت أسيرةً في بيت أهلها وتحت سلطة والدها.

ولكن، إن قررت التحرر من قيوده، واتّخاذ قرارها بنفسها، تصبحُ في نظرهِ خائنةً منحرفةً وبلا أصل.

فيلو لا يرى الأشياء إلا بالأسود والأبيض.

إما أن يحب أو يكره، لا يعرف أن هناك منطقة رمادية بين الشعورين.

في كلا الحالتين هو لن يتركها وشأنها تعيش بسلام.

وهي ستظل مسيطرة على عقله إلى أن يموت بسلام.


ملاحظة

هذه قصة غير حقيقية بالمطلق، فهي مثال فقط لتوضيح الفكرة، ولا علاقة للأسماء المذكورة بأي شخص على أرض الواقع. وإن وجدت هذه الأسماء بالفعل على تطبيق كلوب هاوس، فهي كلها أسماء وهمية ولا تدل على الهوية الحقيقة لحامليها.

تنويه. فيلو في هذه القصة ليس فيلو الملحد، بل هو شاب عربي عادي وقد يكون مؤمناً..


فيلو الحقيقي

أما فيلو الحقيقي سأنال منه الآن.

فيلو: نموذج الملحد العربي المتناقض

فيلو، هذا الفيلسوف المغمور، يُجسد نموذجًا صارخًا للملحد العربي الذي تحركه العاطفة أكثر من العقل.

يتهم فيلو القرآنيين بالترقيع والضياع وغياب المنهج، ويحاول في كل نقاشٍ إعادتهم إلى حظيرة السلف، ليتمكن من انتقادهم بكل سهولة.

تُبنى نظرية فيلو على مبدأٍ غبيٍّ وخبيثٍ في نفس الوقت، فهو يرى أنّ على القرآني أن يتبع منهج وأدوات السلف في التفسير والتأويل حتى يرضى عنهُ ويعترف به كمسلم.

إن رفض القرآني ذلك، فهو بلا منهج، وإن قبل، فإنه سيصل إلى نفس النتائج التي وصل إليها التراثي، وهي مرفوضة بالأساس من قبل فيلو.

لا يكمن الخطأ في المنهج القرآني أو أدواته، بل في عقولٍ عاجزةٍ عن قبول الآخر، عقولٌ تفتقد تلك المنطقة الرمادية التي تفصل بين رأيين متضادين، كالحب والكره، الأسود والأبيض.

في عقول الناس المتزنة، تكون هذه المنطقة كمرجٍ أخضرٍ يفصل بين جبلين، أما في العقول المتطرفة، فهذه المنطقة تكون كالمستنقع الآسن الذي يستقبل كل نفايات التراث والتاريخ.

في كل مرة يتحدث فيها أمثال فيلو، لا أشم إلا رائحة التراث العفنة.

والحل الأمثل لهم؟ أن نتركهم يموتون بسلام.

2تعليقات

    1. حسام

      بالنسبه للمشاعر الغامضة التي كانت تُخالج بطل القصه، هل ممكن تكون هذه المشاعر ما هى الا ارتفاع هرمونات أدت الى هيجان و انتصاب و استفراغ!؟ ارجو من كاتب القصة التوضيح!!

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول المطلوبة مشار إليها *